ابن كثير رحمه الله
لنأخذ نموذجاً تطبيقياً فيما نقول من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله، ونقارنه ببعض كلام الغربيين؛ حيث ذكر الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه في البداية والنهاية -وهذا الكتاب من أنفع الكتب وأفضلها في كتب التاريخ- عندما ذكر ترجمة نوح عليه السلام ابتدأ بأن أتى بنسب نوح عليه السلام على طريقة أهل الكتاب -أي: النسب الموجود في التوراة- لأنه ليس عند المسلمين غيره, وقد يكون في رأيه وفي رأي غيره أنه من الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يُحدث عن بني إسرائيل فيه ولا حرج). المهم هذا شاهد لنظرية وطريقة معينة, ثم قال: وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة -هذه النقطة المهمة- فهو نَسب إلى أهل الكتاب الخطأ الشديد الذي وقعوا فيه -والذي سبق أن نبهنا إليه- عندما حرفوا كتابهم وذكروا هذا..ثم انتقل -بدون أن يُشعرك بالنقلة- بشكل مباشر ومفاجئ فيقول: وكان بينهما عشرة قرون.إذاً: العشرة القرون تناقض قطعاً الآن ما ذكر من هذه المدة، وأخذ يفصل ذلك فاستند إلى الوحي المعصوم الثابت، وهذا الذي نريد أن نثبت؛ أنه بالاستناد إلى الوحي يظهر دائماً الصواب، المهم أن يكون صحيحاً وثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال كما أخرج الحافظ أبو حاتم ابن حبان في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أنبي كان آدم؟)، وهذا من الأسئلة العجيبة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب عليها, وكان الصحابة يسألون عنها؛ ومثل ذلك: حديث عمران بن حصين (أنهم سألوه عن أول هذا الأمر؟) يعني: عن هذا الكون كيف كان؟ وكيف نشأ؟وهنا يقول: (أنبي كان آدم؟)، فالسؤال يدل على علم السائل وحرصه على العلم النافع، فضلاً عما هو أعظم من ذلك؛ ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من العلم من عند الله تبارك وتعالى. فقال: (نعم نبي مُكلم -يعني: نبي يكلم- فقال له الرجل: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون).يقول الحافظ ابن كثير: هذا على شرط مسلم ولم يخرجه، ثم ذكر في صحيح البخاري الأثر -الذي سبقت الإشارة إليه- الموقوف على ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: [كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام].هذه إضافة مهمة جداً من ابن عباس رضي الله عنه، وهذا الكلام مما لا يقال رجماً بالغيب، فلو لم يكن هذا الحديث إلا من كلام ابن عباس -يعني: لو فرضنا أنه موقوف فقط ولا يحتمل الرفع مع أنه يحتمله- لكان ذلك حقاً؛ لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ترجمان القرآن، وقد نبّه الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه أن ثلاثة لا أصل لها -يعني: لا يعتمد عليها- السند القطعي, وإنما إذا صحت وثبتت وتقررت أو تُداولت فإن الناس لا تبحث لها عن أصول؛ لأنها تقرر بغير السند وهي: التفسير، والمغازي، والسير, مثلاً: هذا التفسير إذا جاء عن صحابي فنحن نقبله، إن كان من كلامه أو إن كان يحتمل الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إذا كان يخالف الكتاب والسنة فالاجتهاد يُرد بالنص.على كل حال يبدأ ابن كثير رحمة الله تبارك وتعالى عليه ويبين شيئاً مهماً جداً يقول: ما المراد بالقرن إذاً؟!هنا ننتقل إلى المنهج الثالث أو القضية الثالثة: وهي إعمال العقل والاجتهاد والنظر والتفكير الصحيح في الوحي أو حتى في الآثار والنقوش، فهذا يؤدي إلى العلم.هذه طريقة من طرق العلم النافع التي يجب على البشرية أن تفعلها، فهنا نجد أن العقل المسلم هكذا, فقد نقل ابن كثير عن الكتاب, ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم, ثم بدأ يُعمل عقله, ويقول: ولكن كم القرن؟فقال: إن كان مائة عام -كما يظنه كثير من الناس- فإذاً بين آدم ونوح عليهما السلام تكون المدة ألف عام, وإن كان المراد بالقرون: الجيل من الناس, كما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى: (( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ))[الإسراء:17], وكثير من الآيات فيها كلمة (القرون) تعني: الجيل أو الأمة العظيمة، فقوم نوح قرن، وعاد قرن، وثمود قرن؛ بمعنى: إن كان المراد بالقرن أمة فإذاً هناك أمم كثيرة كانت ما بينهما.بل يقول: كان الجيل قبل نوح يعمرون الدهور الطويلة؛ فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوفاً من السنين؛ لأن هذه القرون كما ذكرنا عشرة قرون على التوحيد، ثم قرون الانحراف إلى بعثة نوح عليه السلام هذا معناه: دهور تقدَّر بألوف السنين!وبذلك نكون استطعنا أن نشكل قدراً معيناً من الحقيقة في هذا، منها: ما يعتمد على الوحي، ومنها ما يعتمد على النقل والاستنباط من الوحي، وحذفنا ما لا داعي له؛ وهو النقل عن أهل الكتاب؛ بل حقيقة هو عين الخطأ؛ لأنه هو الذي يوقعنا في الخطأ، فهذا نتبرأ منه.الحديث كما ذكر ابن حبان والحافظ ابن حجر ذكره في فتح الباري في بدء الخلق, وذكر أنه صحيح فعلاً. إذاً: لدينا هنا مصدر أو مرجع من الوحي المعصوم صحيح في هذه المسألة، فهو مَعْلم ثابت, وممكن نضع نقاط ارتباط ثابتة ثم بعد ذلك نسد الفجوات والفراغات في هذه المسيرة الطويلة بإذن الله تبارك وتعالى.